الخصائص المشتركة بين اللغات السامية

. . No comments:
 الخصائص المشتركة بين اللغات السامية

وقد " عمد بعض العلماء إلى الأمور المشتركة بين اللغات السامية في المفردات والقواعدـ فاتخذ منها صورة للغة السامية الأولى، واعتبر أقرب اللغات السامية إلى هذه الصورة أقدمها نشأة وأولها وجودا.
والجدير بالذكر أن " صلات القربى والصفات الجامعة بين اللغات السامية كثيرة وواضحة، وأشد ظهورا مما هي بين اللغات الهندية الأوروبية. وقد مر بنا أن بعض علماء العربية تنبهوا إلى العلاقة والرابطة بين العربية وغيرهاأما اللغات الهندية الأوروبية، فلا يستطيع إدراك الروابط بينها إلا الباحثون المدققون.

أما أهم الخصائص التي تجمع اللغات السامية، فنلخصها في ما يلي:
1.  الأصوات
اهتمت كتب النحو المقارن في اللغات السامية -وكلها كتب أوربية ببيان الخصائص التي تتسم بها اللغات السامية. ومن الطبيعي أن تتناول هذه الدراسات الجوانب الصوتية- والصرفية والنحوية والمعجمية1. هناك أصوات لا تكاد تخلو منها أية لغة، مثل: الأصوات الشفوية كالباء والميم، والأصوات الأسنانية: كالتاء والدال، إلى جانب أصوات أخرى توجد في لغات ولا توجد في لغات أخرى.
وقد لاحظ الباحثون الأوربيون أن اللغات السامية تضم مجموعة من أصوات لا توجد في اللغات الأوربية، ولذا أبرزوا وجود هذه الأصوات في حديثهم عن الخصائص العامة للغات السامية، والمقصود بهذه الأصوات مجموعة أصوات الحلق.
ومجموعة أصوات الإطباق.
أصوات الحلق مثل الغين والحاء والعين والخاء والهاء والهمزة في اللغة العربية، وهي تلك الأصوات التي تخرج من الحلق، وأصوات الإطباق مثل القاف والصاد والطاء وهي أصوات تشترك في سمة واحدة تتلخص في اتخاذ اللسان شكلا مقعرًا منطبقًا على الحنك الأعلى ويرجع إلى الوراء قليلا1، والواقع أن هاتين المجموعتين موجودتان بدرجات متفاوقة في اللغات السامية المختلفة، فليست كل لغة سامية تضم كل الأصوات الحلقية والمطبقة الموجودة في العربية، فالعربية مثلا تضم عددًا أكثر من أصوات الحلق والإطباق بالمقارنة مع باقي اللغات السامية، وليست هناك لغة سامية واحدة تخلو من عدد من أصوات الحلق والإطباق. والمقصود هنا بوجود أصوات الحلق وأصوات الإطباق كونها في اللغات السامية تكون وحدات صوتية متميزة، وتظهر هذه الحقيقة إذا قارنا ولو بصورة شكلية مباشرة أية لغة سامية، ولتكن العربية مثلا بأية لغة أوربية. فنلاحظ عدم وجود هذه الأصوات الحلقية والمطبقة في اللغات الأوربية كرموز صوتية متميزة، ولكن بعضها مثل الهمزة قد يسمع بصورة ما في بعض اللغات الأوربية؛ ففي اللغة الألمانية نسمع نوعًا من الهمز قد يسمع بصورة ما في بعض اللغات الأوربية، ففي اللغة الألمانية نسمع نوعا من الهمز قبل نطق صوتي "a" في كلمة Abart، ورغم هذا فلا تشكل الهمزة هنا وحدة صوتية متميزة، بل هي مجرد وسيلة نطقية لإبراز نطق الحركة. ولكن اللغات السامية تعرف الهمزة باعتبارها وحدة صوتية متميزة، ففي العربية مثلا هناك فرق دلالي بين "سأل" و"سال"، وشبيه بهذا أمر أصوات الإطباق التي ربما تسمع في كلمات معينة في اللغات الأوربية ولكنها تشكل فيها أصواتًا متميزة وظيفيًّا.
ويميل أكثر الباحثين إلى اعتبار أصوات الحلق في اللغات السامية موروثة من اللغة السامية الأولى، واللغة العربية تعد بصفة عامة أصدق تعبيرًا عن اللغة السامية الأولى، وتضم كل من العربية الشمالية والعربية الجنوبية ستة أصوات.

حلقية وتضم اللغات السامية الأخرى أصواتًا حلقية بعدد أقل. فاللغة السامية الوحيدة التي تضم كل أصوات الحلق المعروفة في العربية الشمالية هي اللغة العربية الجنوبية القديمة أي لغة النقوش اليمنية، ففي العربية الشمالية والعربية الجنوبية نجد نفس أصوات الحلق كاملة غير منقوصة، أما في المهرية، وهي امتداد حديث للعربية الجنوبية القديمة، فإنا نجد هذه الأصوات عدا صوتًا واحدًا لأن المهرية تخلو من العين كصوت متميز. ويقل عدد أصوات الحلق في اللغات السامية التي عرفتها منطقة الشام قبل الإسلام، فأصبحت الحاء في العبرية مثلا تمثل الحاء العربية والخاء العربية معًا، وبذلك أصبح الصوتان المتميزان الحاء والخاء في اللغة السامية الأولى صوتًا واحدًا هو الحاء في اللغة العبرية. وهكذا قلت أصوات الحلق في اللغات السامية في الشام قبل الإسلام، وهناك لغة سامية فقدت أكثر أصوات الحلق وهي اللغة الأكادية في العراق القديم، ولذا لم يبق في اللغة الأكادية من أصوات الحلق إلا صوتان حلقيان، هما: الهمزة والخاء فقد حدثت في هذه اللغات تغيرات قللت عدد أصوات الحلق، أما اللغة العربية فقد احتفظت بالمجموعة كاملة، ولذا تعد العربية من هذا الجانب امتدادًا مباشرًا للغة السامية الأم.
أما أصوات الإطباق وهي في العربية: القاف، والصاد، والطاء والضاد، والظاء، فقد قل عددها أيضا في بعض اللغات السامية الأخرى، وتوجد هذه المجموعة كاملة غير منقوصة في اللغة العربية الجنوبية القديمة وتضم كل اللغات السامية الأخرى عددا أقل من أصوات الإطباق، وأكثر هذه الأصوات ثباتًا الصاد والقاف والطاء، فهذه الأصوات الثلاثة موجودة في كل اللغات السامية القديمة، ولكن الظاء والضاد قد تعرضتا للتغير الصوتي في عدد من اللغات السامية، فكل ضاد وكل ظاء وكل صاد عربية يقابلها مثلا صاد في العبرية، وبذلك حل صوت واحد في العبرية محل ثلاثة أصوات في العربية. ويلاحظ نفس الشيء في الأكادية فالصاد الأكادية تقابل ثلاثة أصوات عربية هي الصاد والضاد والظاء، أما اللغة الآرامية فقد كان موقفها من الضاد
جديرًا بالملاحظة، فقد تحولت الضاد الموروثة عن اللغة السامية الأولى في اللغة الآرامية مرة إلى قاف ثم إلى عين. ويعد هذا التحول من أصعب التحولات الصوتية تفسيرًا. ولكن مقارنة أصوات الإطباق الموجودة في اللغات السامية المختلفة أثبت أن أصوات الإطباق الموجودة في العربية تعد امتدادًا مباشرًا لأصوات الإطباق الموجودة في اللغة السامية الأولى. ويطلق على تلك التحولات القياسية التي طرأت على بعض الأصوات في اللغات السامية مصطلح القوانين الصوتية، والمقصود بهذا المصطلح أن هذه التغيرات قياسية مطردة تسري على كل الكلمات دون استثناء. وتعني كلمة "قانون" إطار علم اللغة نفس معناها في العلوم الطبيعية، فالقانون تفسير للظاهرة، وليس وسيلة للتحكم فيها، فالقوانين الصوتية تفسر التغيرات الصوتية التي حدثت فعلا، فليس هناك قوانين تفرض على اللغات. بل هناك قوانين تفسر ظواهرها.

2. بناء الكلمة
ويقوم بناء الكلمة في اللغات السامية على أساس الصوامت ويرتبط معنى المادة اللغوية في اللغات السامية بمجموع الصوامت التي تكون كل مادة، وأكثر الكلمات في اللغات السامية تتكون من مادة ثلاثية. وقد عبر النحاة العرب عن هذه الصوامت بالفاء والعين واللام، وتقوم فكرة الميزان الصرفي على أساس التمييز بين الحروف الأصول الممثلة في الميزان الصرفي بالفاء والعين واللام وبين ما يطرأ على الكلمة المفردة من تغيير بالإضافة أو الحذف1. ويرتبط معنى الكلمات الكثيرة المشتقة من المادة اللغوية الواحدة في اللغات السامية بالصوامت فالكلمات: كَتَبَ، كُتِبَ، كتاب، مكتب، مكتبة، مكتبات، تكون أسرة واحدة تقوم وحدتها على أساس وجود الأصوات الصامتة الثلاثة، الكاف والتاء والباء بهذا الترتيب. ويؤدي وجود هذه الأصوات الصامتة الثلاثة إلى تحديد المعنى الأساسي الذي تدور حوله معاني الكلمات المختلفة المكونة من    تتابع هذه الصوامت. ويتحدد المعنى الخاص لكل كلمة من هذه الكلمات المشتركة في الحروف الأصول بمعايير أخرى، فالحركات المختلفة من ضم وفتح وكسر تشكل الصيغ المختلفة داخل الإطار الدلالي الذي حددته الصوامت وبذلك تختلف كلمة: كَتَبَ عن كلمة: كُتِبَ رغم اتحاد الحروف الأصول لأن الأولى بوزن: فَعَلَ المبني للمعلوم والثانية: فُعِلَ المبني للمجهول وتتكون صيغ صرفية كثيرة بإضافة سوابق مثل الميم، نجد هذا مثلا في الكلمات: مكتب مكتبة. تتكون صيغ صرفية أخرى عن طريق إلحاق نهاية تؤدي معنى محددًا. وذلك مثل نهاية المذكر السالم وجمع المؤنث السالم بالنسبة للأسماء. وهكذا يقوم بناء الكلمة في اللغات السامية على أساسين متكاملين: المادة اللغوية، والوزن.
وتصنف الأسماء في اللغات السامية وفق معايير ثابتة يمكن تطبيقها على كل اللغات السامية لأنها مستخرجة منها. هذه المعايير ليست انعكاسًا لمنطق عقلي عام ليس له وجود. ولكن واقع اللغات السامية جعل من الممكن تحديد معايير تغيرات الصيغ في الأسماء فيها وفق ثلاثة جوانب، هي: العدد numbur والحالة الإعرابية case والجنس gender.
والمقصود هنا بالعدد كل ما يتعلق بالإفراد والتثنية والجمع، فاللغات السامية تقسم الأسماء وفق هذا التقسيم الثلاثي. فكل اسم في اللغات السامية لا بد وأن يعبر عن مفرد أو عن مثنى أو عن جمع. وليست هذه دائمًا حال اللغات الأخرى، فاللغات الأوربية الحديثة مثلا تقسم الأسماء من هذا الجانب تقسيمًا ثنائيًّا. فهناك صيغة للمفرد تسمى Singular وصيغة لغير المفرد تسمى plural وبهذا تختلف اللغات السامية عن اللغات الأوربية المعاصرة، فالاسم الدال على اثنين او اثنتين له في اللغات السامية صيغة متميزة في صيغة المثنى القياسية في العربية. ويبدو أن صيغة المثنى كانت هكذا في اللغة السامية الأولى، ولكن استخدام هذه الصيغة قل في بعض اللغات السامية مثل العبرية، فلم تعد صيغة المثنى تستخدم فيها إلا في الأشياء التي توجد في الواقع الخارجي مثنى    
مثنى مثل: اليدين والرجلين.
أما الحالة الإعرابية للأسماء في اللغات السامية فذات تنوع ثلاثي. وقد أطلق النحاة العرب على هذه الحالات الإعرابية مصطلحات الرفع والنصب والجر، ويعد الإعراب على هذا النحو الثلاثي في العربية امتدادًا للغة السامية الأولى وقد احتفظت اللغة الأكادية بظاهرة الإعراب على هذا النحو أيضا فالخط الأكادي يثبت الحركات دائمًا، ولذا فقد أمكن التعرف من رموزه المدونة على حقيقة أن الاسم في الأكادية كان يتخذ ثلاثة أشكال، ينتهي أحدها بالضمة والثاني بالفتحة والثالث بالكسرة، وتطابق هذه الأشكال الثلاثة للاسم الأكادي الأشكال المقابلة في العربية رفعًا ونصبًا وجرًّا، لم تحتفظ أكثر اللغات السامية بالنهايات الإعرابية وفقدت اللهجات العربية التمييز بين الحالات الإعرابية للاسم أيضًا، ولكن الباحثين يرون الإعراب على نحو ما تعرفه العربية وما عرفته الأكادية ظاهرة أصيلة في اللغة السامية الأولى. ولا يعكس التنوع الإعرابي على هذا النحو المعروف في العربية منطقًا عقليًّا عامًا يسري على كل اللغات، فهناك لغات كثيرة لا تصنف الأسماء أي تصنيف وفق هذا المعيار، وهناك لغات تصنف الأسماء من هذا الجانب إلى أربع صيغ. فاللغة الألمانية تميز في إعراب الاسم بين المرفوع Nominativ والمنصوب Akkusativ والمجرور Dativ والمضاف إليه Genitiv ولا تكاد التقسيمات العربية تطابق التقسيمات الألمانية إلا في حالات معدودة، فلكل لغة نمطها الخاص في ذلك1. وتعرف اللغة اللاتينية عددًا أكبر من الحالات الإعرابية، منها مثلا حالة النداء Vocativ، وفي بعض اللغات السلافية توجد حالة الأداة Instrumental وفي اللغة التركية توجد حالة مكانية Locativ وكل هذه الحالات يعبر عنها في العربية بأداة أو بحرف مع الاسم التالي. فاللغات المختلفة تتباين من هذا الجانب وتختلف اختلافًا كبيرًا. ويعكس هذا الاختلاف اختلاف الطرق التي تميز بها اللغات المختلفة بين صيغ الأسماء.
وتصنف اللغات السامية الأسماء أيضا من ناحية الجنس إلى ما يطلق عليه المذكر وما يطلق عليه المؤنث، ولا علاقة هنا بين الواقع الخارجي والصيغ اللغوية، وإنما تعارف النحويون على وصف صيغة الاسم بأنها من المذكر أو المؤنث على سبيل الاصطلاح والتقريب فقط، وتتضح نسبية هذا التقسيم بالنظر في الأشياء التي ليس لها بحكم طبيعتها أي نصيب من التذكير والتأنيث مثل: الكتاب. والشمس. والمنضدة. ولكن كل اسم في اللغة العربية أو في اللغات السامية الأخرى ينبغي أن يصنف من ناحية الجنس، وهنا تصبح بعض هذه الأشياء من المذكر، وبعضها من المؤنث لاعتبارات شكلية أحيانًا، وربما يعكس بعضها رواسب من فكر إنساني قديم، فكل الأسماء الدالة على جماد والتي تنتهي بتاء التأنيث تصنف في العربية باعتبارها مؤنثة، وبهذا الاعتبار تصنف كلمة "المنضدة"، وعلى العكس منها تصنف كلمة نضد، وقد لوحظ في عدد كبير من اللغات التي تميز الأسماء إلى مذكر ومؤنث أن الكلمتين الدالتين على الشمس والقمر في كل لغة من هذه اللغات لا تتفقان بل تتكاملان من ناحية الجنس فالشمس في العربية من المؤنث والقمر من المذكر، وكذلك كلمة der Mond وكلمة dir Sonne في الألمانية أما في اللغة اللاتينية واللغات المتفرعة عنها فإنا نلاحظ العكس ولكن مع الاحتفاظ بالتكامل؛ ففي اللاتينية كلمة Sol تصنف من المذكر وتدل على الشمس وكلمة Luna تصنف من المؤنث وتدل على القمر، ومعروف أنه لا علاقة طبيعية بين الشمس والقمر، والتذكير والتأنيث في الواقع الخارجي، وليس من الضروري أن تقسم اللغات الأسماء هذا التقسيم الثنائي؛ فهناك لغات مثل التركية لا تصنف الأسماء وفق هذا الاعتبار. وهناك لغات أخرى تصنف الأسماء من هذا الجانب تصنيفًا ثلاثيًّا، ففي اللغات الجرمانية يوجد إلى جانب المذكر والمؤنث صيغة ثالثة يطلق عليها ويترجم هذا المصطلح بالمحايد، ولا علاقة هنا بين الكلمة كصيغة لغوية وما تدل عليه في واقع الحياة، فكل كلمة تنتهي في الألمانية بالنهاية chen أو بالنهاية lein تعد من المحايد بغض النظر عن مدلولها في واقع الحياة، ومن هذا النوع في اللغة الألمانية كلمة Fraulein ومعناها آنسة، وكلمة Madchen ومعناها بنت وكلمة Hauschen ومعناها بيت صغير. فكل هذه الأسماء تصنف في اللغة الألمانية من المحايد وذلك وفق الصيغ اللغوية لا وفقًا لما تدل عليه الكلمة في الواقع الخارجي، وكل هذه الأمثلة توضح أن تصنيف اللغات للأسماء من هذا الجانب يختلف من لغة لأخرى، ولكنه في كل حالة لا يخرج عن كونه مجرد تصنيف للكلمات. وقد صنفت اللغات السامية الأسماء من هذا الجانب تصنيفا ثنائيا، وهو تصنيف للأسماء لا للأشياء.
وتصنف اللغات السامية الفعل فيها إلى عدة صيغ، ويطلق على هذه الصيغ الموجودة في العربية: المضارع والماضي والأمر. وهكذا حال الفعل أيضا في اللغات السامية القديمة في الشام والحبشة، ولكن اللغة الأكادية طورت لنفسها نظاما مخالفا إلى حد ما، ففيها نجد صيغا أكثر، وأغلب الظن أن نظام الأفعال في اللغات السامية المختلفة لا يعكس ظاهرة موروثة على نحو مباشر من اللغة السامية الأولى، فالاختلاف كبير بين نظام الفعل الأكادي ونظام الفعل في اللغات السامية الأخرى. وليس من الصحيح أن نتصور أن قدرة اللغة العربية على التعبير عن الزمن غير متنوعة لعدم تنوع صيغ الأفعال فيها، فالمضارع لا يعبر بالضرورة عن الحال أو الاستقبال، بل قد يعبر أيضا بالصيغ المركبة عن الحديث الذي استمر في الماضي: كان يكتب. وبالمثل فإن الماضي لا يعبر بالضرورة عن الزمن الماضي، فيمكن أن يستخدم الفعل الماضي في اللغة العربية للتعبير عن الحاضر أو المستقبل. فجملة الشرط يمكن أن تتكون بفعلين ماضيين دون أية دلالة عن الماضي: إن كتب كتبت. فالصيغتان الفعليتان الماضي والمضارع في العربية تعبران عن أشياء كثيرة، ويتحدد معنى الصيغة المستخدمة وفق بنية الجملة.

3. بناء الجملة
أما من ناحية بناء الجملة فالاختلاف كبير بين اللغات السامية في عصورها القديمة واللغات السامية في العصور التالية، ويبدو أن اللغة السامية الأولى لم تكن ذات جمل طويلة، بل كانت تسودها ظاهرة التوازي Parataxe أي أن الجمل كانت قصيرة وترتبط الجملة بالأخرى عن طريق الواو، فهذه الجمل القصيرة تتوازى الواحدة بجانب الأخرى1. ونجد في اللغة العبرية القديمة ظاهرة التوازي ونجدها أيضا في اللغة العربية في نصوصها القديمة إلى حد كبير. فالجمل قصيرة، والواو تربط بين جملة قصيرة وأخرى، ولكننا نلاحظ بمضي الوقت أن اللغات السامية أخذت تكون شيئًا فشيئًا جملا طويلة معقدة، فالجملة العربية تعقدت مع تطور الفكر ورقيه تعقيدًا كبيرًا، حتى إننا نجد صيغ الاستثناء والقصر في العربية على نحو لا نجده في اللغات السامية التي دونت قبل العربية. فكلما تقدم الزمن تعقدت الجملة ولم تعد على بساطتها الأولى، ظهر نمط جديد يطلق عليه التركيب Hypotaxe. ومن الممكن أن تلاحظ إلى اليوم سيادة ظاهرة التوازي في اللهجات العربية ولا سيما عند المتحدثين الذين لم يتأثروا بالفصحى كثيرًا، ونلاحظ نفس الظاهرة في اللغة المهرية، فالجملة فيها قصيرة تتكون من بضع كلمات لا تزيد، وسرعان ما تنتهي الجملة وتبدأ أخرى، فالكلام العادي يتكون من وحدات صغيرة متراصة الواحدة بجانب الأخرى. وهذا شأن اللغات التي لم تدخل بعد إلى مرحلة التعبير عن الفكر المعقد المتنوع، فما أشبه بساطة الجملة المهرية بالجملة التي كتبت في النقوش العربية القديمة، وما أبعد هذه الجمل البسيطة عما نقرأه في النثر العربي الحديث. فالجملة تتعقد كلما دخلت إلى مجال التعبير عن الأفكار الكثيرة المتميزة والمتنوعة. وتعقد أنماط الجملة وتنوعها على مستوى التأليف يعد سمة عامة، تقابلها سمة التوازي على مستوى اللغة المنطوقة، فعندما يكون الحديث باللغة الفصحى في أحد المواقف الكلامية التي يحدث فيها ذلك نلاحظ رغم هذا أن الجمل المنطوقة أقل تركيبًا من الجمل المكتوبة، ففي اللغة الألمانية يمكن أن تكون الجملة المكتوبة الواحدة من خمسة أسطر ولكن الجملة المنطوقة الفصيحة لا يمكن في الأحوال الكلامية العادية أن تبلغ نصف هذا الطول. ليست الجمل المكتوبة طويلة لمجرد أن وحداتها كثيرة متوازية، ولكنها طويلة لأن بها وحدات كثيرة متكاملة في نظام محكم يضمها جميعا في إطار جملة واحدة مركبة، ولم تكن الجملة السامية الأولى تعرف مثل هذا التركيب، فأقدم النصوص السامية تسودها الجمل الصغيرة المتراصة. ما أشبه هذه الجمل الصغيرة المتوازية بالاستخدام اللغوي عند الطفل، فالطفل يستخدم أيضا في حديثه العادي جملا صغيرة كثيرة. وكلما ارتقى فكره تعقدت جمله شيئا فشيئا.

4.  الألفاظ الأساسية
وهناك ألفاظ أساسية تشترك فيها اللغات السامية، وليس المقصود بذلك أن هذه الألفاظ موجودة بنفس دلالتها في كل اللغات السامية، فكثيرا ما تتغير الدلالات، ولكن المقصود أن هذه الألفاظ ترجع إلى أصل اشتقاقي واحد في اللغة السامية الأولى1. فكلمة "هلك" في اللغة العربية يقابلها في اللغة العبرية الفعل "هالخ"، ومعنى هذا أن كلا الفعلين يرجع إلى المادة السامية المشتركة "هـ ل ك" ولكن ثمة خلافا بين معنى "هلك" في العربية و"هالخ" في العبرية. إذ تدل "هلك" في العربية على الذهاب إلى العالم الآخر ولكن الفعل العبري "هالخ" يدل على مطلق الذهاب ومنه الذهاب إلى المدرسة والذهاب إلى العمل......إلخ فالمقارنات الاشتقاقية بين الألفاظ في اللغات السامية لا تعني بالضرورة أن معنى الكلمتين أو الكلمات موضع المقارنة هو نفس المعنى بل تعني أن الكلمتين أو الكلمات المقصودة من أصل اشتقاقي واحد. فكلمة "لحم" تدل في العربية على معنى يخالف كلمة "لحم" في العبرية، لأن الكلمة العبرية تدل على الخبز. وتعد الكلمتان من أصل واحد باعتبار الاشتقاق رغم اختلاف المعنى وإذا ما اختلف معنى الكلمتين المشتقتين من أصل واحد كان السؤال عن الدلالة الأقدم موضوع بحث، وهذا البحث ممكن بربط هذه الدلالات المتفرعة. فيمكن أن تكون كلمة "لحم" قد أدت في اللغة السامية الأولى معنى الطعام اليابس، أي غير السائل فيكون معنى هذه الكلمة في العبرية ضربا من تخصيص الدلالة، ويكون المعنى الموجود للكلمة العربية المقابلة ضربا آخر من تخصيص الدلالة. وهكذا ينطلق علم اللغة المقارن في مجال المفردات من الأصول الاشتقاقية ثم ينظر بعد ذلك في الدلالة ومدى اتفاقها وتغيرها.

وقد صنف كثير من الباحثين الألفاظ المشتركة في كل اللغات السامية. وتضم هذه الألفاظ المشتركة عدة كلمات تدخل في مجالات: الأسرة، وجسم الإنسان وتسمية الحيوان والنبات، والأعداد، وتضم أيضا بعض الأفعال. تضم كل اللغات السامية عدة كلمات متشابهة في كل هذه اللغات، منها الألفاظ الدالة على العلاقات الأساسية القديمة في الأسرة. وهذه الألفاظ مثل: أب، أم، أخ، أخت، حم. وتوجد هذه الكلمات في اللغات السامية القديمة مما يدل على كونها موروثة من اللغة السامية الأولى، ويلاحظ مثلا في هذ المجموعة المشتركة أن العم والخال لم يتخذا مكانهما ضمن الألفاظ المشتركة في اللغات السامية الخاصة بالأسرة. غير أن كلمة "عم" توجد في أكثر اللغات السامية بدلالات أخرى، فكلمة "عم" في العبرية تعني الشعب، وقد وُصِفَ الإله الكبير في اليمن القديم بأنه "عم" وكأن هذه الكلمة دلت في اللغة السامية على الأب الكبير، وتغيرت دلالاتها بعد ذلك في اللغات السامية. وهناك كلمات مشتركة في كل اللغات السامية تدل على أجزاء من جسم الإنسان، وليس من المتوقع أن نجد ألفاظا تعبر عن تفصيلات تشريحية كثيرة في جسم الإنسان، بل هي ألفاظ عامة، فالكلمات: عين، رجل، يد، شعر، أذن، رأس، مشتركة في كل اللغات السامية. أما أسماء الحيوانات في اللغات السامية فتشترك في كلمات معدودة منها مثلا: ليث وكلب، وعجل، وقد لوحظ أن كثيرًا من اللغات السامية تتخذ للحيوان الذكر اسما وللحيوان الأنثى اسما آخر لا يمت للأول بصلة، ومثال ذلك في العربية: حمار وأتان، أسد ولبؤة. وهناك عدة أسماء للنباتات تشترك فيها اللغات السامية منها: كمون، سنبلة، قمح، ثوم، وتشترك اللغات السامية أيضا في الأعداد الأساسية. وتتفق اللغات السامية كلها اتفاقا شبه كامل في الأعداد من 2 إلى10 ولكن الكلمة الخاصة بالعدد واحد تختلف في الأكادية والمهرية عن باقي اللغات السامية1. ويبدو أن اللغة السامية الأولى عرفت هذه الأعداد إلى العشرة، ثم عرفت كلمتين أخريين للمائة والألف.
إن المنهج المقارن يفترض أن الظواهر المشتركة في كل اللغات السامية، أو في أكثر اللغات السامية ظواهر موروثة عن اللغة السامية الأولى، يصدق هذا على الأصوات وعلى الأبنية الصرفية وعلى أبنية الجمل وعلى المفردات أيضا؛ فتلك الظواهر المشتركة ميراث سام قديم، أضافت إليه كل لغة من اللغات السامية على مر الزمن. وليس من المفيد أن يكثر الجدل حول مهد هذه اللغة السامية الأولى التي سبقت اللغات السامية المختلفة في الوجود2. وأغلب الظن أن أبناء اللغة السامية الأولى كانوا في بيئة تعرف قدرا من الزراعة وقدرا من الرعي، فهناك قدر كبير من الألفاظ الزراعية والرعوية المشتركة في اللغات السامية، وإذا صح لنا أن نفترض أن الجماعة اللغوية السامية الأولى قد عاشت في شمال الجزيرة العربية وبادية الشام والعراق فإن الهجرات التي خرجت من مهد الساميين قد اتجهت في موجات تاريخية متتالية إلى منطقة الرافدين وإلى أرض الشام وإلى اليمن والحبشة، وفي هذه المناطق تكونت اللغات السامية المختلفة.

No comments:

Post a Comment

Popular Posts