المشترك اللفظي

. . No comments:
 المشترك اللفظي

مفــهوم المشـــترك
للغة العربية ثروتها الموفورة مستمدة من مصادرها الأصيلة.ولها ظواهرها المختلقة من كل نواحيها الصوتية واللفظية والتركيبية والدلالية. إحدى من مقوماتها, المشترك اللفظي فهي علامة واضحة فى لغتنا, وهو بكثرته خصيصة لها, وعامل من عوامل تنميتها وقد اعتنى العلماء له وأشاروا إلى شواهده وألقوا فيه من أفكارهم مؤيدين أم منكرين.

وأنهم قد قاموا بهذه الخصيصة اللفظية وعلاقتها بالمعاني دراسة قسموا من بينهما الألفاظ-بحسب ارتباطها بالمعانى- أقساما أهمها ما ذكره سيبويه من أنها على وجه التالى :
1- اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين, نحو جلس وذهب
2- اختلاف اللفظين واتفاق المعنيين, نحو ذهب وانطلق
3- اتفاق اللفظين مع اختلاف المعنى, نحو وجدت عليه من الموجدة , ووجدت إذا أردت وجدان الضالة[1].
والقسمان الأخيران يعدان من وسائل نمو اللغة وسعة التعبير فيها عن طريق دلالة الألفاظ بمايسمى بالاشتراك والتضاد والترادف.
وبالتالى نريد أن نعرف بعض تعاريف العلماء فى الاشتراك قديما وحديثا, حتى يبدو لنا فيما ذهبوا إليه فى حقيقة وقوع الاشتراك من الكلام العربي.
يقول سيبويه في كتابه ( باب اللفظ والمعانى ) :
(( اتفاق اللفظين والمعنى مختلف, نحو قولك: وجدت عليه من الموجودة, ووجدت إذا أردت وجدان الضالة. وأشباه هذا كثيرا ))[2]
ويقول المبرد في كتابه(ما اتفق لفظه واختلف معناه) :
(( وأما اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين, فنحو : وجدت شيئا إذا أردت وجدان الضالة, ووجدت على الرجل من الموجدة, ووجدت زيدا كريما: علمت))
ثم عرف السيوطي عن المشترك بأنه (( اللفظ الدال على معنيين مختلفين فأكثر, دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة ))[3]
ونكتفى بهذه الثلاثة من القدماء لنقف من بعدهم بعض تعاريف المحدثين عن المشترك اللفظي من هؤلاء, د. عبد الغفار حامد هلال الذي صرخ في كتابه بأنه ((دلالة اللفظ على معنيين أو أكثر على التساوى))[4]
ثم عالج أيضا د.علي عبد الحميد وافي عنه هو(( أن تكون للكلمة الواحدة عدة معان تطلق على كل منها على طريقة الحقيقة لاالمجاز))[5]
فقد عرف أيضا د.توفيق محمد شاهين عنه ((هو مااتحدت صورته واختلف معناه, على عكس المترادف)) (6)
فبعد أن تأملنا تعاريف العلماء عن المشترك نكاد لم نجد منهم أي إنكار أو تعارض من حكم وقوع المشترك فى اللغة إلا أن المحدثين خالفوا سلفهم فى بعض أسباب وجود المشترك كالاستعمال المجازي, أو تطبيقات الاستخدام, والاختلاف الناتج عن تعدد السياقات اللغوية, من حيث أن هذا الاختلاف أمر معلوم, إذ أن اللغة تطورت واتسعت بمطالب الحياة والأحياء, أو لأن المعانى غير متناهية والألفاظ متناهية. فتنوع معناه أتى من تنوع استعماله ولو اشترك فى لفظه.
فهذا منطق اللغة غير منطق العقل ولو تساوي لوجب ألا يكون للفظ الواحد سوى معنى واحد, وألا يكون للمعنى الواحد سوى لفظ واحد أيضا. ولكن الغة كما رأينا في كثير من جوانبها لها منطق خاص يبدو – فى أكثر الأحيان - على جانب كبير من الغرابة حيث تجعل للفظ الواحد أكثر من معنى, وللمعنى الواحد أكثر من لفظ حتى قال العلماء (( هي العرب تقول ماتشاء))[7]
ولا شك أن التعبير يتسع عن طريق المشترك. وقد أدت كثرة المشترك اللفظي فى العربية على ذيوع ظاهرة((التورية)), وهي عبارة عن استخدام الألفاظ المشتركة فى معان غير متبادرة منها, وذلك كأبيات الخليل التى رواها أبو طيب بالسند عن الحرمازي التى مطلعها:
يا ويح قلبي من دواعى الهوي إذ رحل الجيران عند الغـــروب
اتتبعتهم طرفي وقد أزمعـــــــــــــــــــوا ودمع عيني كفيـــض الغـــــروب
بانوا وفيهم طفلة حـــــــــــــــــــــــــــــــــرة تفتر عن مثل أفاجي الغروب[8]
فالغروب الأولى: لغروب الشمس, والثانية: للدلو العظيمة, والثالثة: بمعنى الوهاد المنخفضة.
هذا – كما ذكرنا – أن المشترك اللفظي يوسع من القيم التعبيرية , ويبسط مداها اللفظي.
هذا و من الجدير بعد عرضنا لمفهوم المشترك أن نذكر أمثلة من المشترك اللفظي توثيقا و دليلا لما أتينا منه, فمن أمثلته:
))فى الصحاح: الأرض المعروفة , وكل ما سفل فهو أرض , والأرض : أسفل قوائم الدابة, والأرض: النفضة والرعدة. قال ابن عباس فى يوم زلزلة: أزلزلت الأرض أم بي أرض, والأرض: الزكام, والأرض: مصدر أرضت الخشبة تؤرض أرضا فهي مأروضة إذا أكلتها الأرضة(([9]
))وقال الفارابي فى ديوان الأدب فى ذكر معانى العين, العين: عين الركبة. والعين: عين الماء. والعين: الديدبان. والعين: عين الشمس. والعين: حرف من حروف المعجم. وعين الشئ: خياره. وعين الشئ: نفسه. ويقال لقيته أول عين أي أول شئ, ويقال: ما بها عين : أي أحد. انتهى(([10]
ووردت كلمة )العجوز( التى روي لها صاحب القاموس أكثر من سبعين معنى, وهي : (( الإبرة, والأرض, والأرنب, والأسد, والألف من كل شئ, والبحر, والبطل, والبقرة, والتاجر, والترس, والتوبة, والثور, والجامع, والجعبة,والجفنة, والجوع, وجهنم, والحرب, والحربة, والحمى والخلافة, والخمر, والخيمة, ودارة الشمس, والداهية , والدرع للمرأة, والدنيا, والذئب, والذئبة, والراية, والرعشة ,والرخم, والرمكة , ورملة معروفة , والسفينة, والسماء, والسن, والسموم,...الخ))[11]
ووردت الألفاظ المشتركة فى القرآن كثيرة , منها: ﴿أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا﴾[12]فـــ لامس بمعنى: مس البشرة, ولامس بمعنى: جامع.
وفى أية أخرى ﴿كالمهل يغلي فى البطون﴾[13] فالمهل بمعنى: عكر الزيت المغلىو, والمهل: ما أذيب من المعادن, والمهل: قيح ودم صديد
وأخرى ﴿كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة﴾[14]فالقسورة بمعنى : أسد , والقسورة : رماة صيادون
وفى أية وردت فى بعض الحروف, نحو: ﴿إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف﴾[15] فـــ إن حرف شرط أي بمعنى الشرطية, ووردت فى أية ﴿إن هذان لساحران﴾[16] فـــ إن حرف ناسخ مخفف من إنّ, وفى أخرى ﴿إن الكافرون إلا فى غرور﴾[17] فــ إن حرف نفي أي بمعنى النفي.
وشاهد المشترك فى الحديث. قال سعيد بن زبد بن عمرو بن نفيل, قلت يا رسول الله, إن أبي كان على ما رأيت وبلغك , أفلا أستغفر له؟ قال : "بلى, فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده".
والأمة : الواحد المنفرد بالدين. والأمة بمعنى : الجماعة , كحديث: "لولا أن الكلاب أمة تسبح لأمرت بقتلها". والأمة : الحين من الزمان , كقول الأعشى[18]:

أتذكر بعد أمتك النوارا وقد قنعت بنو شيب عذارا



أسباب نشأة المشترك
ويمكننا أن نلخص عوامل نشأة المشترك في العربية عموما فيما يلى:
1. اختلاف للهجات العربية القديمة واللغات
بأن تختلف كل قبيلة عن الأخرى في استعمال الألفاظ للدلالة على معان, فلما اختلف الاستعمال لديهم جاء جامعوا اللغات فضموا هذه المعاني بعضها إلى بعض بدون أن يعنوا في كثير من الأحوال بإرجاع كل معنى إلى القبيلة التي كانت تستخدمه, وبعض أمثلته كانت تختلف معانيه كذلك في الأصل باختلاف القبائل, ولكن معانيه المختلفة قد انتقلت فيما بعد إلى لغة قريش, وأصبح يطلق فيها على جميع هذه المعاني.
ويؤيد مسألة الوضع أن العلماء كانوا يدركون المعانى التى تدور حول اللفظ الواحد, ثم يدركون أيضا الفرق متى اختلفت الصيغة, وهذه الألفاظ منقولة إلينا فى المعنيين من غير نص على اختلاف الوضع, مثل)اليد( تطلق على الذراع كله وتطلق على أخرى على الساعد والكف, ولدى أخرى تطلق على الكف خاصة. اللهم إلا ما جاء نادرا مشار إلى القبائل التى كانت تطلق الكلمة, فقد روى أبو زيد مثلا, أن قبيلة ( تميم ) كانت تطلق كلمة ( الألفت) على الأعسر, وهو الذى يعمل بيده اليسرى, كأن فيه التفاتا من اليمين إلى اليسرى. أما قبيلة (قيس), فكانت تطلق هذه الكلمة على الأحمق. ولعلها كانت تلحظ فيه التفاتا من الكيس إلى الحمق. كما تطلق عامة العرب على الذئب :( السرحان ) و ( السيد) , وهاتان الكلمتان تطلق عند هذيل على )الأسد(.
مما تعدد معناه فى القرآن الكريم نتيجة الاختلاف اللهجي, نحو المعنى التي تختلف عما يستعمله قريش كلمة )وراء( في قوله تعالى-:﴿فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾[19], قال ابن عباس : المراد ولد ولد, وهو استعمال هذلي, ففي البرهان : " جاء رجل من هذيل ابن عباس فقال ابن عباس: ما فعل فلان ؟ قال : مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء" أي من ولد ولده. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إني أراني أعصر خمرا ﴾[20] فالخمر فى الأية : العنب في لغة أزد عمان, وهو فى سائر الأيات بمعنى الشراب المسكر.
واللغة قد تستمد ألفاظا من لغات أجنبية عنها, وذلك قد يسببه بجانب ألفاظا أخرى فيها –قد تتحد معها في الصيغة – وجود المشترك, وقد أشار صاحب شفاء الغليل إلى إمكان ذلك ككلمة )سكر( فإنها معربة وإن كانت فى العربية مادة)سكر( بمعنى: أغلق, وفي القرآن الكريم ﴿سكرت أبصارنا﴾[21].وفى العربية مادة )برج (, وقد استعير )البرج ( بمعنى: الحصن, من اليونانية, فإذا اشتقت كلمة من المادة العربية توافق الكلمة المنقولة عن اليونانية في الصيغة, وتختلف عنها فى المعنى نشأ المشترك.
2. المجاز
قد يوضع اللفظ لمعنى حقيقي أصلي, ثم يشتهر استعماله في معنى مجازي أي أن اللفظ الواحد لم يكن له إلا معنى واحد على سبيل الحقيقة ثم تضمن معان أخرى على سبيل الاستعارة والمجاز, وينسى أنه مجاز فيه, فينقل اللفظ إلينا على أنه حقيقة في المعنيين : الحقيقي والمجازي.
وهذا الاستعمال المجازي يظهر واضحا في نحو كلمة ) العين( يدل في الأصل على عضو الإبصار فى الإنسان والحيوان, بدليل مقارنة اللغات السامية المختلفة, وهي من الأسماء القديمة فيها. أما العربية ففيها زيادة على هذا المعنى: الإصابة بالعين, وضرب الرجل فى عينه, والمعاينة. وهذه كلها اشتقاقات فعلية من لفظ) العين ( بمعناها القديم. ومن معانيها كذلك: المال الحاضر, لأنه يعاين كذلك, وبعكس المال الغائب الذي لا تراه العين. ومن معانيها: الجاسوس وربيئة الجيش وهو الذي ينظر لهم وهذا على التشبيه والمبالغة, فكأن الجاسوس والربيئة قد تحولا إلى عين كبيرة. لأن العين أهم أعضائها فى عملها.
فهذا الاستعمال المجازي للّفظ الذي يخيله المحدثون أن هذا الرأي من اجتهاده, ومن بنات أفكاره, والحق أنه قديم. أشار إليه ابن سيده فى المخصص, وهو رأي الفارسي حين قال : ((أو تكون لفظة تستعمل لمعنى, ثم تستعار لشيء فتكثر وتصير بمنزلة الأصل ))[22]
ويتخذه بعض النافين لوجود المشترك دليلا له على النفي, لكننا رأينا فى الكلام على ذلك من قبل. بأن نقول بالمجاز يقصد به المجاز بمعناه الواسع لا الضيق, كما هو مفهوم عند علماء البلاغة, وبالتالى فإن كثيرا مما عد حقيقة أو مجازا لم يكن - فى واقع التحقيق- كذلك. والسبب: أن المعنى الأصلي أحيانا ينسى, وأحيانا يحفظ فى بطون المعجمات, وقد كان يلاحظ وحده حين أطلق للمرة الأولى. ثم جاءت بعض المصادفات المحضة التي قد تظل مجهولة لدينا في بعض جوانبها أحيانا كثيرة. فغيرت معنى اللفظ واستعملته فى غير المراد الأصلي البدائي منه.
والمجاز بمعناه الواسع أي)) أن للعرب المجازات في الكلام, ومعناها طرق القول ومآخذه, ففيها : الاستعارة والتمثيل, والقلب, والتقديم, والتأخير, والحذف, والتكرار, والإخفاء, والإظهار, والواحد, والجميع, وخطاب الاثنين, والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم, وبلفظ العموم لمعنى الخصوص... وبكل هذه المذاهب نزل القرآن[23]((.
ومن ذلك ) الحوت( فهو فى الأصل للسمك,ثم أطلق على أحد أبراج السماء, وشاع ذلك حتى صار حقيقة فيه.
ومثل هذا فى القرآن كثيرة, منها كلمة ) الأب ( التي معناها الأصلي : الوالد, ثم انتقل معناها -بعلاقة المشابهة- إلى معنى الجد والعم أو معنى المعلم والمربي. وبها جميعا فسر قوله تعالى-﴿ إنا وجدنا ءابانا على أمة﴾[24] والشاهد فيه أيضا كلمة "ثقال" التي جاء أصل معناها من الثقل المؤدي إلى صعوبة الحركة, ثم اتسع معناها- بعلاقة المشابهة – ليدل على الشيوخ, والفقراء, والغرباء والكسالى, والضعفاء, وأصحاب العيال.وبها جميعا فسر قوله تعالى ﴿انفروا خفافا وثقالا﴾[25](
3. اختلاف الاشتقاق
كأن تؤدي القواعد الصرفية إلى أن تتفق لفظتان متقاربتان في صيغة واحدة, فينشأمن ذلك تعدد في معنى هذه الصيعة يؤدي إلى جعلها من المشترك مثل ) وجد ( من الوجدان بمعنى العلم بالشئ, أو العثور عليه, فيقال : وجدت الضالة إذا عثرت عليها, ووجدت زيدا كريما إذا علمته. كذلك ومن الموجدة بمعنى الغضب فيقال : وجدت عليه إذا غضبت, ومن الوجد بمعنىى الحب الشديد , فيقال : وجد به وجدا إذا هوىه وأخلص فى حبه.
وقد صرح السيوطي فى كتابه مما أخذه من ابن درستويه قائلا أن هذه اللفظة من أقوي حجج من يزعم أن من كلام العرب ما يتفق لفظه ويختلف معناه. لأن سيبويه ذكره فى أول كتابه, وجعله من الأصول المتقدمة.
4. تطور المعنى
فإذا تطور معنى اللفظ, وبقيت أصواته دون تغير أدي ذلك إلى حدوث المشترك. منها الأصول التي تشتق منها الألفاظ للدلالة على معان جديدة ذات معان عامة, لذلك فقد تستعمل للدلالة على مسميات مختلفة تشترك في تلك الصفة أو ذلك المعنى العام.
مثلا: )الدليل( يقصد بها من يدل على الطريق, أومن يطوف مع السائحين في عصرنا ليدلهم على الأماكن الجديرة بالزيارة. ويراد بها الكتاب الذي تطبعه دوائر السياحة في كل بلد, لدلالة الغريب على آثاره ومعالمه. ويقصد بها كذلك الحجة المنطقية والبرهان ... لأن هذه المسميات ينطبق عليها كونها دالة لقاصدها, وإن كانت هي ذاتها مختلفة.
وقد مثل بعض الباحثين لذلك بكلمة )الهجرس (فهي تعني: القرد, في لهجة الحجاز, وتعبر عن الثعلب عند تميم على أساس أنها كانت –في الأصل – تدل عند الفريقين على أحد الحيوانين, ثم تغير هذا المعنى عند أحدى القبائل لأمر طارئ على حياتها اللغوية.
ولكن إدراك تطور المعانى أمر غامض لايكاد التاريخ اللغوي يسعفنا به. وكيفما كان الأمر فإن المعنى قد مرت به تطورات مختلفة,وتعاورت عل اللفظ الواحد تغيرات متعددةكانت سببا – فيما يبدو – في نشأة بعض الألفاظ التي تعد الآن من المشترك اللفظي.
وقد نشأ هذا التطور عرفيا, ))فيكون حقيقة لغوية فى الأول وعرفية في الثاني ويصبح مشتركا بينهما. ومنه الألفاظ الموضوعة فى اللغة لمعنى, ثم استعملت فى الاصطلاح الشرعي أو القانوني لمعنى أخر, كلفظ الصلاة أو لفظ الدفع, أو لفظ الطلاق. فلفظ الصلاة في اللغة وضع : للدعاء, وفي الشرع للعبادة المخصوصة, ففي قوله تعالى ﴿ وأقيموا الصلاة ﴾[26] يراد به المعنى الشرعي لا اللغوي. ولفظ الطلاق في اللغة وضع لحل أو قيد, ووضع شرعا لحل قيد الزوجية الصحيحة, فقوله- تعالى- ﴿الطلاق مرتان ﴾[27]يراد به معناه الشرعي لا اللغوي. ولفظ الدفع وضع في اللغة للسرعة في السير أو الحديث, وفي الشرع للرد أو لأداء الدين, وفي القانون للرد على دعوى المدعي, فيقال: دفوع الخصم , والدفع بعدم التنفيذ. فقولهتعالى- : ﴿ادفع بالتي هي أحسن﴾[28] أي رد بالأحسن والأكرم [29]((
5. تطور الصوتي
فقد تتغير بعض أصوات اللفظ, أو تحذف , أو يزاد بعضها عليه فيتفق في صورته مع لفظ أخر يختلف عنه في المعنى فينشأ المشترك.
)) أن) السدفة (تكون بمعنى الضوء. وأيضا بمعنى الظلمة. ثم ذكر علماء الأضداد بعدئذ أن) الشدفة(بالشين. تختمل المعنيين أيضا. هذا فضلا عما جاء بكثرة في باب الإبدال. وقد فطن الأقدمون لعامل التطور الصوتي – إذن –وذكروا أنه لم يكن من وليد الصدفة . وذكروا أمثلته. وليس بصحيح إذن ما ذكره المحدثون من أنهم لم يفطنوا له وإن كانوا لم يعنونوا له(([30].
مثل ذلك ما روي لنا , من أن )مرد( : أقدم وعتا, ومرد الخبز: لينه بالماء. وأصل الكلمة بالمعنى الثاني هو:)مرث(. ففي المعاجم : (مرث الشئ في الماء: أنقعه فيه حتى صار مثل الحساء). فقد أبدلت صوت الثاء هنا تاء, فصارت الكلمة :)مرت (, وهذه رويت لنا كذلك, ثم جهرت التاء لمجاورتها للراء, فصارت :)مرد(وبذلك ماثلت كلمة )مرد(بمعنى : أقدم وعتا.
و من ذلك )المحت( بمعنى الشديد, واليوم الحار, والخالص, مع أن )البحت( بمعنى الخالص أيضا, والميم أخت الباء.مثل )لزب ولسب( , كما جاء في القاموس بمعنى اللصوق ولذع الحية والعقرب.
ومثال ذلك أيضا ما في المعاجم , من قولها : ( الفروة:جلدة الرأس والغنى ). وأصل الكلمة بمعنى الثاني,هو: ( الثروة ) أبدلت الثاء فاء على طريقة العربية في مثل ( جدث) و ( جدف) و ( حثالة) و (حفالة) وما أشبه ذلك.
))ومن الأمثلة كذلك, ما روته المعاجم, من أن (حنك ألغراب) هو باطن أعلى الفم من داخل, و (حنك الغراب) شدة سواده, فإنه مما لا شك فيه, أن (الحنك) بالمعنى الثاني, متطورة عن (الحلك) بمعنى : شدة السواد. قلبت فيها اللام نونا, كما أبدلت في مثل : إسماعيل وإسماعين, إسرائيل و إسرائين, وجبريل وجبرين, وغير ذلك[31]((.



أراء العـــــلـــماء فيـــه
المبحث الأول :رأي اللغويين بين المنكرين والمثبتين
1.رأي المثبتين
قال بوقوعه طائفة كبيرة من العلماء, منهم الخليل, وسيبويه, والأصمعي, وأبو عبيدة, وأبو زيد, وأبوعلي الفارسي وابن فارس وابن جني.واعترف به ابن فارس ومثل له (بالعين ) وقضي), كما ألف كتابا في الرد على منكري الأضداد. وأفرد بعضهم بتآليف مثل : الأصمعي وسيبويه وأبو عبيدة وغيرهم. ونبه ابن جني علي حروف وأسماء وأفعال لم يقتصر بها على معنى واحد. لأنها كما عبر (وقعت) مشتركة (وأنها : اتفق لفظها واختلف معناها).
ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في صفة الوقوع, هل ذلك يكون من جهة الوجوب, أو الأغلب, أو إمكان الوقوع مطلقا؟. وقول العلماء بأن المشترك أمر ممكن الوقوع شائع ومشهور. ودليلهم على ذلك وجود الألفاظ التي وقع فيها الاشتراك في لغة العرب وأساليبهم ولا يمكن إنكارها.كما يقول الدكتور أنيس في عدم هذا الإنكار, ))لامعنى لإنكار المشترك اللفظي معما روي لنا من الأساليب الصحيحة من أمثلة كثيرة لا يتطرق إليها الشك.[32]((
وقد جاءت شواهد كفلق الصبح , وله من الأسباب ما يدعو لوجوده في اللغة من واضع أو أكثر , فالقبائل عربية, وهي صاحبة اللغة. فالمشترك واقع ملموس, وحقيقة لاخيال , وكثير لا قليل.
من تلك الشواهد, قول شيخ المفسرين الطبري, وهو يعلق علي( الحفدة ) في قوله- تعالى- : ﴿ بنين وحفدة﴾[33] الحفدة: الخدم والأعوان. وقيل: بنو المرأة من غير زوجها وقيل الأصهار, وأصل الحفدة: مداركة الخطو والإسراع في المشي, وإنما يفعل هذا الخدم. ويقال في دعاء الوتر: (وإليك نسعى ونحفد), أي نسرع. ويعلق بقوله: لم يدل الله بظاهر تنزيله , ولا علي لسان رسوله ولا بحجة عقل,علي أنه بذلك نوعا عن الحفدة دون نوع, وهذا من فضل الله علينا ومن نعمه.فالكل داخل, إذ له وجه في الصحة ومخرج في التأويل[34].

2. رأي المنكرين
أنكر فريق من العلماء وجود المشترك في اللغة, منهم ابن درستويه, يقول هو مانعا(( فاللغة موضوعة للإبانة عن المعاني, فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين, أو أحدهما لما كان ذلك إبانة بل تعمية و تغطية))[35]. يرى أن اختلاف البنية ينفي الاشتراك والنقل أيضا فمثل لفظ ( وجد) لوجود شئ مطلقا خيرا كان أم شرا, ولأن مصادره قد اختلفت, ولو حكاها سيبويه في أول كتابه, إنما هذه المعانى التي حكاها سيبويه في ( وجد )كلها لشئ واحد, وهي إصابة الشئ خيرا كان أو شرا. ثم يمضي ابن درستويه فيقول : ((والمصادر كثيرة التصاريف جدا, وأمثلتهاكثيرة مختلفة, وقياسها غامض, وعللها خفية, والمفتشون عنها قليلون, والصبر عليها معدوم))[36] فيخلص من ذلك إلى: ((توهم أهل اللغة أنها تأتي على غير القياس. لأنهم لم يضبطوا قياسها ولم يقفوا على غورها)).
وتمسك بعض النافين أيضا بأن المجاز والنقل لعبا دورهما, وأن المجاز في النقل باق حتي بعد النقل, ونقول لهم: إنه مات في زحمة الاستعمال, والنقل في اللغة كالنسخ في الشريعة كما أسلفنا في البيان عنه سابقا.
وللرد على ابن درستويه نقول[37]:
1. يكفي أن سيبويه- وهو من هو في تأصيل وتعقيد اللغة – اعترف بالاشتراك للفظ في أول كتابه, وكذلك أعلام العلماء.
2. وإجماله بأن المعانى كلها لشئ واحد , هو إصابة الشئ خيرا كان أو شرا, فهذا معنى فلسفي لا يتفق مع طبيعة اللغة, وإيغال في التنكير الشديد للفظة ( وجد)
3. وما قاله من أن المصادر كثيرة التصاريف جدا وأمثلتها كثيرة مختلفة وقياسها غامض... كل ذلك حجة عليه لا له.
4. وما حكاه من أن المفتشين عن علل المصادر الغامضة والخفية قليلون وصبرهم معدوم ينقضه ما لخصه صاحب تاج العروس في لفظي ( الصلاة ) و (وجد) فيما يؤكد وجود جهد في تحقيق معانى الألفاظ وإلا فماذا يفعل العلماء فوق ذلك للفظة واحدة.
روت الكثرة من العلماء وجود المشترك في لفظ ( وجد ) وعارضت القلة في ذلك وما نظن أن كثرة تمدها أدلتها – تجتمع على غير صواب.
ولعل هذا كفاية وبرهان على أن لفظ ( وجد ) من ألفاظ المشترك الذي تعتز به لغتنا, إذ للفظة الواحدة أكثر من معنى فلم ننكر هذا على لغتنا, وفيها ما يثبت ذلك.

المبحث الثاني: رأي علماء الأصول في المشترك
عني علماء الأصول بكثير من الألفاظ ودلالتها عناية كبيرة, وبدأت جل كتبهم ببحث المبادئ اللغوية, لأن استنباط الأحكام من النصوص منوط ومحصوا ما بحثوه من أبحاث اللغة, ونظموها, وجادلوا فيها, حتي وفوا المقام حقه. لأن منطلق الأحكام الشرعية والاستنباطات الفقهية والخلافات المذهبية من منطلق لغوي.
وقد بحث الأصوليون في الدليل الشرعي من ناحيتين[38]:
1- دلالة اللفظ على المعنى, أي كيفية فهم المعنى الذي احتواه اللفظ, وهو النطق واللسان العربي, ومرده إلة اللغة واللغويين.
2- ودلالة المعنى الذي احتواه اللفظ على القاعدة الشرعية, وهذه الناحية زائدة على أصل الوضع اللغوي. فللغويين والأصوليين صلة وثيقة. إذ أن ألفاظ اللغة منطلقهم لفهم كتاب الله واستنباط الأحكام الشرعية.
فكما اعترفوا الحقيقة الشرعية, اعترفوا الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية العامة. ويفيد كل ذلك أن المشترك اللفظي واقع في اللغة العربية, وأن الاستعمال دليل الاشتراك, وأن النقل لا يبطل ذلك. والحق أن اشتغال الأصوليين باللغة ومبادئها ليس من الفضول كما قال بعضهم . قلقد رأوا أن الأحكام تنطلق من منطلق لغوي قبل كل شئ, ورأوا المعانى جدت في الشرع ولا بد لها من ألفاظ.
وقد صرح د. محمد فوزي فيض الله أن للأصوليين مواقف من اللغة لم تخرج من خمسة مواقف, هي: موقف الالتزام, وموقف الاختزال, وموقف التكميل, وموقف الترجيح, وموقف الإنشاء[39].
وهاك مثالا يوضح الاتجاه اللغوي للأصوليين في الترجيح اللغوي – بعد أن قرروا أن الاشتراك خلاف الأصل, وإذا ورد في كلام الشارع يجب الاعتقاد بحقيقته, والبحث عن المرجح لبعض معانيه بالصيغة نفسها أو بدليل خارج منها. هذا ))مثال ترجيح أحد معنىي المشترك بقرينة لفظية, فلفظ (القرء) في قوله تعالى-:﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾[40]. رجح المالكية والشافعية معنى الطهر بقرينة, وهي لفظ (ثلاثة ) التي ينبغي أن تكون عكس المعدود, وتأنيث اسم العدد دليل على أن يكون القرء عكس المعدود, وتأنيث اسم العدد دليل على أن المعدود مذكر وهو الطهر لاالحيضة. ورجح الخنفية والحنابلة معنى الحيض بقرينة أخرى, وهي أن لفظ (ثلاثة) خاص, والخاص يدل دلالة قطعية على أن مدة العدة ثلاثة قروء من غير زيادة ولا نقصان, وهذا لا يتحقق إلا إذا كان المراد بالقرء : الحيض(([41].
وأخيرا-مع إثباتهم في المشترك-لم يكن اشتغالهم باللغة من الفضول, وإنما كان من الأصول والواجب.


الخاتمـــــــــــة
تلك هي جولة قصيرة وبحث سريع عن المشترك اللفظي, وعرض عام من أسبابه وأراء العلماء فيه مع بعض اختلافات التي قامت بينهم بين الإثبات والنفي, مع سرد الأمثلة التي تقع فيها الاشتراك من الكلام العربي.
يبدو لنا أن كلا من الفريقين مبالغ فيما ذهب إليه فلا يمكن إنكار الاشتراك لوقوعه في ألفاظ العربية, ولورود الأمثلة الكثيرة منها في النصوص والقرآن الكريم والحديث النبوي. هذه الحقيقة تلائم ما رآه الدكتور محمد توفيق شاهين, حيث قال:)) فأمهات كتب الأدب واللغة التي وعت, وفحول العلماء هي التي حكت, والشواهد هي التي رجحت , واستعمالات اللغة هي التي جوزت, وطبيعة اللغة ومرونتها هي التي مررت, وقبائل العرب هي التي وضعت واستعملت, واللغة للأمتاع كما هي لغيره وللألغاز كما هي للجد والهزل[42]((
فنخلص من ضمن عرضنا للبحث, أن المشترك على خلاف الأصل, لكنه ورد بأساليب فصيحة لا سبيل إلى إنكارها. فقد حكم كثير من علماء اللغة بوقوعه في لغتنا, وأطبقوا على ذلك, ويقوي هذا الحكم شهادة النحاة, والاستعمال الأدباء, وشرح العلماء, و رواية أمهات الكتب. فلاسبيل إلى إنكاره.
ولئن أسرف بعض المجوزين له بلا ضابط ولا رابط  أحيانا  وبغير روية وإمعان. فقد أسرف المانعون في القول بمنعه وعدم وقوعه في لغتنا.
فالرأي الأجدر بالقبول هو التسليم بوجوده في اللغة مع عدم التوسع والمبالغة أي التوسط. فلا مغالاة ولا إنكار. والاعتدال هو الحل الوسط, وقد رضي ذلك كثير من العلماء المحدثين. لأن الظاهرة شائعة في لغتنا.
فهذا ما يسره الله أن أبذل من جهدي في البحث عن المشترك اللفظي وما تلحق حوله من أسباب وآراء العلماء فيه. فما كان من صواب فهو منه وحده, ومن فضله علينا, فله الحمد والمنة, وما كان من تقصير أو نسيان أو خطإ فهذا من نفسي و من الشيطان, فأعتدرعنه.والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به. والله أعلم بالصواب.


مصادر البحث
1- المشترك اللفظي نظريا وتطبيقا, دكتور توفيق محمد شاهين, الطبعة الألى, مكتبة وهبة, القاهرة, 1980م
2- علم اللغة بين القديم والحديث, دكتور عبد الغفار حامد هلال, ط. الثالثة, مكتبة وهبة, القاهرة,1989م
3- فصول في فقه العربية, دكتور رمضان عبد التواب, ط. لبسادسة, مكتبة الخانجي, القاهرة, 1999م
4- فقه اللغة, د. علي عبد الواحد وافي, ج. الرابع, ط. الأولى,مكتبة لجنة البيان العربي, 1956م
5- الاشتراك والتضاد في القرآن, د. أحمد مختار عمر, ط. الأولى, م. عالم الكتب, القاهرة, 2003م
6- الوجيز في أصول الفقه, أ.د. وهبة الزحيلي, ط. الثانية, دار الفكر, دمشق, 1995م
7- المزهر في علوم اللغة وأنواعها, للعلامة السيوطي, ج. الأول, تح. محمد أبو الفضل إبراهيم, المكتبة العصرية, بيروتو 2009م

No comments:

Post a Comment

Popular Posts